تحديد المشاكل بدقة والحديث عنها مهما كانت كبيرة ليس تشاؤماً، إنما بداية الطريق للإصلاح. الأهمّ من ذلك العمل بجدّ وجهد لوضع الحلول المناسبة لها. ومع الحلول، وضع الموارد المناسبة ومن الموارد تحديد الإطار الزمني لتنفيذ هذه الحلول مع وجود نظام للمتابعة والتقييم. عدا ذلك هو مجرّد دوران في دوائر اليأس وجلد الذات.في مؤسسة روانكه التي تهتم بتطوير الواقع التعليمي والتربوي، وتركّز على الواقع الشبابي وتحاول تحسينه من خلال تقديم الخدمات، بناء القابليات وصياغة السياسات، نرى أن هجرة الشباب إن كانت على المستوى الفردي فهي حق وقد تكون حلاَ له ولعائلته، لكنها بالتأكيد في هذه الظروف العالمية، وعندما تتحوّل الى ظاهرة مجتمعية، فهي مؤشر سلبي على مرض موجود في المجتمع نفسه، وأنه قد تحوّل الى مكان لا يستطيع أفراده أن يشعروا بالأمان فيه أو يروا مستقبلهم على أرضه وهنا مكمن الخطر، الذي يبدو حالياً أن قيمنا وأفكارنا وطرق حياتنا والنظم التي نتبناها لإدارة الحياة والعمل على المستويين الفردي والمجتمعي ليست راسخة ولا مستقرة. ومقارباتنا في أفضل السيناريوهات تكرَس الواقع السلبي وفيها قوة طاردة للكفاءات والطاقات والموارد أكثر منها قوة جاذبة لها. أقول هذا وأنا لا أنكر أنه جاءت فترة قبل أكثر من سنتين، حيث كانت هناك هجرة عكسية من الخارج الى الداخل. وحتى حينذاك كنّا نقول إنّها هجرة قلقة وإن اقتصادنا هش ولا بدّ لنا من دعائم أقوى وإلاّ فتراجعه الى حدّ الانهيار ليس بأمر مستغرب. وقد حدث ما نتعايشه الآن كنتيجة أولية لسوء إدارة الموارد من مختلف الأطراف عمودياً وأفقياً: حكومات متعاقبة ومواطنون ومؤسسات ربحية وغير ربحية.
بالمبدأ نحن مع الحلول الاستراتيجية، المستدامة والشاملة. حلول تخلق واقعاً وثقافة ومجتمعاً من نوع آخر. حلول تنطلق من نقاط قوة الواقع وتأخذ عبراً من أخطاء الماضي ولديها رؤية، وفي الطريق تقيس وتعلن نسب التقدّم. هذا هو المسار الذي تؤمن به مؤسسة روانكه لخلق التغيير، وليس الحلول الترقيعية قصيرة المدى والتي تركز على أمور وتهمل أخرى.
هناك ثلاث حقائق يجب أن نعترف بها:
لم نعد بلداً اشتراكياً، بحيث إن الدولة فيه تمتلك الإنتاج ووسائل الإنتاج،مع أن الحكومة ما تزال الماكينة والمحرّك الاقتصادي الأقوى، لكنها لم تعد تلك الحكومة الغنية جداً والتي تستطيع أن توظف الجميع مباشرة.
لم يعد ينفع أن نعتمد فقط على النفط كمصدر وحيد للدخل القومي لكي نبقى في وهم أننا بلد غني!من ناحية أخرى، هناك حاجة للتحرّك على أربعة مسارات:
مسار القيم: بحيث تتم فيه مراجعة وتثبيت قيم أساسية في إدارة المؤسسات، أهمها: الشفافية، العدالة، المهنية وأخلاق العمل. والتأكيد على قيمة العمل ومحاربة ثقافة الربح السريع المبنية على أساس المحسوبية والمنسوبية والفساد.
مسار السياسات: تبنّي سياسات نابعة من منظمة القيم آنفة الذكر، وجعلها موضع الاهتمام والتطبيق.
مسار الممارسات: بحيث تتحوّل السياسات المصاغة الى سلوك مهني مع وجود عمليات متابعة وتقييم لضمان التطبيق.
مسار المؤسسات:بحيث تتبنّى مؤسساتنا هذه القيم والسياسات وتعمل وفقها، وتنشأ مؤسسات أخرى وفق النسق وأخرى تضمن تلك المسارات جميعاً.
في مؤسسة روانكه وللتصدي لهذه الظاهرة، نرى من الضروري العمل على ما يأتي:
تنويع مصادر الاقتصاد والدخل:النفط مصدر مهمّ دون شك، لكن الوقت قد حان إن لم يكن متأخراً لكي نتوجه الى مصادر أخرى وأهمها (الزراعة، السياحة واقتصاد المعرفة).
إعادة النظر في النظام التعليمي:فالتعليم في أساسه لبناء شخصية الإنسان وهو مفهوم أوسع من كون التعليم فقط للحصول على شهادة تؤهّلنا للعمل. ومع ذلك من المهمّ لنظامنا التعليمي أن يعدّ محترفين وعمالاً مهرة لسوق العمل، يتبنون القيم والممارسات التي تحدثنا عنها. وإعادة النظر تشمل مناهج التعليم وطرقه، المؤسسات التعليمية نفسها ومرافقها من مختبرات ومعامل ومواد وغيرها... باختصار المؤسسات التعليمية يجب أن تعمل على التوعية، التدريب والتجسير بين الطالب وبين سوق العمل والحياة.
معامل ومصانع استراتيجية:القوة الشبابية العاملة المتكاثرة سنوياً والعاطلة باستمرار لا يمكن أن يتم استيعابها بأنشطة وبرامج قصيرة المدى، في ظلّ عدم قدرة الحكومة على التوظيف الحكومي. ومن أهم الأولويات الاستفادة من موادنا الأولية مثل مصانع للتعليب، مصانع للجلود ومصانع للنسيج. ومن الأولويات أيضاً مشاريع إعادة التدوير وما ينتج عن عملياتها.
إعادة النظر في العمل الحكومي:ما زالت الحكومة هي المحرّك الأكبر للاقتصاد، والتوظيف الحكومي يوفر فرصاً للعمل ويعطي استقراراً للوضع. لكنّ أخطاء التوظيف الحكومي العشوائي سابقاً ونوعية الإدارة الحكومية غير المبنية على أساس المتابعة والتقييم، والبعيدة عن تحديد أهداف للموظف ولا تهتم بمبدأ الثواب والعقاب جعلت الحكومة مترهّلة في أدائها فوق ترهّلها الإداري. المراجعة في هذه الأخطاء ضرورية لكي تصبح الأجهزة الحكومية نموذجاً للحكم الرشيد، ومن ثم تستطيع أن تنظّم السوق وتنشر هذه القيم وتصوغ السياسات وتضبط إيقاع السوق بما فيه مصلحة المواطن. فالحكومة من حقّها أن لا توظّف الجميع لكن من واجبها تنظيم السوق والسعي إلى توفير فرص العمل في القطاعات الأخرى.
برامج القروض للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وبرامج ريادة الأعمال: تصميم برامج ومبادرات حكومية وغير حكومية، ربحية وغير ربحية لتوفير رأس المال لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وخصوصاً للشباب في مقتبل العمر، وأيضاً عمل مبادرات وخلق ديناميكيات في المجتمع لأجل دعم مبادرات ريادة الأعمال وريادة الأعمال الاجتماعية.
تفعيل قانون العمل:لأجل نقلة اقتصادية صحيحة ولتفعيل سوق العمل وإعادة توجيه بوصلة الناس من القطاع الحكومي الى القطاع الربحي، لا بدّ من إعطاء ضمانات وامتيازات. ومن أهم تلك الضمانات الراتب التقاعدي والضمان الاجتماعي. والقانون يحتاج الى تعديلات طفيفة، لكن الأهم هو تفعيله وتوثيق ثقة الناس وصلتهم به.
تشجيع الاستثمار وتوظيف المحلي:كانت هناك محاولات ممتازة لجذب المستثمر الخارجي وتفعيل المحلي. هذه الجهود لا بدّ أن تستمرّ وتقدم تطمينات وحماية أكثر للمستثمر الخارجي. بجانب ذلك تشجيع المستثمر المحلي وحماية حقوقه من محاولات بعض أصحاب النفوذ باستغلال الموقع الإداري أو الحزبي للحصول على حصة لمجرد تسهيل المعاملات. الى جانب تشجيع توظيف الخبرات والكفاءات المحلية. أنا أعلم أن القانون ينصّ على ذلك، لكن عملياً ثمة إشكاليات، جزء منها متعلق بالأجور والمهارات وأخلاق العمل وجزء آخر هو تلاعب بالموضوع. فالمواقع العليا ذات الإيراد العالي غالباً ما تُعطى لصاحب جواز السفر الأجنبي، بينما المهن العادية ذات المستوى المتدنّي والأجور المتدنية تُعطى للمحلي.
مؤسسة روانكه تعمل حالياً مع المنظّمات والشركات الدولية والمحلية على تطوير المهارات الشبابية وخصوصاً التي تجعلهم قيادات جيدة وتؤهّلهم بشكل احترافي لسوق العمل مع مؤسسة التمويل الدولي IFC. كما توفّر لهم فرص العمل من خلال مشاريع بناء وترميم المدارس ومشاريع المياه وبناء المخيمات أو مرافق معينة لتعليم الكومبيوتر، المطالعة، الرياضة والمساحات الخضراء. كذلك تهتم بتطوير مستوى التعليم المهني للشباب وتوفير عمّال مهرة لسوق العمل ولا سيما مع منظّمةHelp الألمانية. ومن مشاريعنا أيضاً مشروع (روانكه فرص) وهو عبارة عن موقع إلكتروني يجمع أصحاب العمل مع الباحثين عن العمل مع بعضهم ويوفر تعليماً إلكترونياً بشهادات دولية معتبرة على مهارات متنوّعة.
في كل مجتمع كما في جسم الإنسان، هناك قوى بناء وقوى هدم، وكل مجتمع يريد أن يبقى ويستمرّ في النمو، عليه أن يزيد من نسبة عمليات البناء نوعاً وكمّاً ويقلل ويحصر من عمليات الهدم، وأن ينشئ نظاماً ينتج الحلول، لا أن يزيد المشاكل والتحديات!
تعليقات الزوار