يكاد لا يمرّ يوم في لبنان دون الحديث عن مسألة الهدر والفساد التي باتت قضية بنيوية رافقت عمل الإدارات والمؤسسات الرسمية منذ نشأتها، ولا تزال حتى اليوم تشكّل عقبة أمام تفعيل دورها لتدرّ أموالاً إضافية إلى خزينة الدولة دون أن تكون عبئاً على كاهلها،اذ تتوالى الفضائح وتنتهي مع الأسف دون محاسبة حقيقية أو إصلاح جذري ويُمارس مُفسدو أجهزة الدولة أعمالهم المشبوهة في الإدارات والمرافق العامة دون حسيب أو رقيب، بدءاً من سرقة أموال مشاريع البنى التحتية والتورّط بصفقات غير قانونية تحت غطاء سياسي، إلى صرف معاشات وهمية والتوظيف العشوائي بفعل "الواسطة"، لكننا ومع ذلك نجد هؤلاء الفاسدين يتحدثون عبر المنابر مطالبين بكشف المتورطين في قضايا الهدر والفساد ورفع الغطاء عنهم أيّاً تكن إنتماءاتهم الحزبية أوالطائفية. إلى متى سيستمرّ هؤلاء بتشويه صورة المؤسسات العامة وإضعاف قدرتها على تحقيق التنمية المستدامة؟ وهل منع الهدر داخل الإدارات العامة يحتاج إلى قرار سياسي أم توافق وطني؟
لماذا يتقاضى موظفو سكك الحديد رواتب بقيمة 11 مليار و 772 مليوناً سنوياً؟؟؟
يتفق الجميع على أن قضية الهدر والفساد لم تولد من فراغ بل تعاقب عليها فاسدون كُثر عزّزوا من موقعها وساهموا في نهب أموال البلد باستغلال مؤسساتٍ توقّفت عن العمل منذ زمن كمصلحة سكك الحديد والنقل المشترك التي لا تزال حتى اليوم تضمّ مديراً عاماً ومدراء أقسام وموظفين يتقاضون رواتب شهرية من الدولةبقيمة 3 ملايين و270 ألف ليرة شهرياً أي ما يعادل 11 مليار و 772 مليوناً سنوياً، بالرغم من اختفاء معالم القطارات والسكك الحديدية منذ العام 1975 إثر إندلاع الحرب الأهلية. ويبلغ عدد موظفي المصلحة حوالى 300 موظف وتصل ميزانيتها السنوية إلى 13 مليار ليرة لبنانية، ما يعني أنّ الدولة ساهمت على مدار 42 عاماً بهدر حوالى 504 مليارات ليرة لبنانية، علماً أنّ هذه المبالغ الطائلة كانت كفيلة بإعادة إنشاء وتمديد سكك حديدية جديدة وتشغيل القطارات بين كل المناطق اللبنانية. لكن الدولة تصرّ على هدر الأموال من دون أن يلوح في الأفق أي مشروع لإعادة تأهيل هذه السكك أو وقف صرف هذه المعاشات الوهمية التي تدخل في جيوبهم.
إن فكرة إحياء القطار من جديد لم تكن من أولويات الحكومات اللبنانية المتعاقبة التي استعاضت عنها بتلزيماتٍ لبناء أوتوسترادات وجسور، في ظلّ وجود كمّ هائل من الدراسات العلمية واندفاع العديد من المتطوعين الذين لم يكلّوا عن إظهار جدوى إستعمال القطارات من الناحية الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، بالإضافة إلى رغبة شركات دولية عدّة بتمويل هذا المشروع منها الصين التي عرضت على وزارة الأشغال العامة والنقل مشاريع تُعنى بتحديث سكك الحديد على الساحل بين بيروت وطرابلس. إلاّ أنّ المشاكل لا تعدّ ولا تحصى أمام إعادة إحياء هذا القطاع من جديد، فبعضها يتعلّق بموافقة الدولة على البدء بتنفيذ هذا المشروع، وبعضها الآخر يعود إلى جملة التعديات على "سكك الحديد"كإستعمال أرض "السكة" مواقف تابعة لشركات كبيرة ولنافذين في الدولة، إلى جانب تعبيد الطريق البحرية من بيروت إلى طرابلس ما أخفى معالم "السكة" في العديد من المناطق اللبنانية وتشييد أبنية سكنية يكون مدخلها قريباً من السكة الحديدية. لكن، مهما تعدّدت الأسباب التي تحول دون تطوير هذا القطاع، لا يمكن التغاضي أبداً عن استمرار هدر الأموال بشكل مُفرط على مؤسسةٍ عامة منتهية الصلاحية لا جدوى منها.
33 مليار دولار سنوياً رواتب النواب
لا تقتصر مظاهر الفساد على وجود مؤسسات شاغرة أو وظائف وهمية، بل تتعدّاها إلى صرف تعويضات مرتفعة جداً لنواب ووزراء متقاعدين تبلغ قيمتها 22 مليون دولار أميركي. هذا الهدر في المال العام شرّعه قانون رقم 25 عام 1974 الذي نصّ على دفع 75% من المخصّصات والتعويضات الشهرية لرؤساء الجمهورية ورؤساء المجلس النيابي والنواب ورؤساء الحكومة السابقين من تلك التي يتقاضاها النائب في الخدمة. وبحكم هذا القانون يحظر الجمع بين المخصّصات والتعويضات العائدة وبين تلك المترتبة في حال عودة المستفيد إلى نفس المنصب، وفي حال وفاته تتقاضى أسرته 75% من المخصّصات والتعويضات المستحقة له. في العام 2017 صدر قانون آخر رقم 7 تضمّن تعديلاً على القانون 72/25 وأصبح مفاده "في حال وفاة المستفيد من أحكام هذا القانون تتقاضى أسرته كامل المخصّصات والتعويضات المستحقّة له بموجب هذا القانون"، وجرّاء ذلك استفادت عائلات النواب بنسبة 100% بعدما كانت تستفيد من نسبة 75%. لكن الأسوأ من ذلك أنّ المادة المُضافة إلى هذا القانون أقرّت باعتبار النائب الذي قضى خلال ولايته بحكم مَن أمضى 3 دورات نيابية، وعندها يكون لعائلته الحقّ في وراثة تقاعده النيابيوهو أمر غير منطقي خصوصاً أنّ عدد النواب يُلامس الـ588 ويُكلّفون الدولة 33 مليار دولار سنوياً.
فأين المؤتمنون على ملف مكافحة الفساد والمناط بهم ضبط الإنفاق والحدّ من هدر المال العام؟للأسف، الذي يحصل في لبنان هو من عجائب وغرائب الدنيا لأن حتى الدول النامية لا تعاني من هذا الهدر والاستنزاف، الى متى سيستمرّ النواب المنتقلون الى رحمته تعالى بتقاضي معاشاتهم حتى ولد ولدهم ناهيك عن النواب السابقين والجدد، يتكلمون عن تقشّف ويتذرعون بحُججٍ عدّة لماذا لا يتوقف دفع رواتب الوزراء والنواب المتقاعدين والمتوفين ويتمّ تخصيص هذه الأموال للبنى التحتية وصيانة البيوت التي تنهار على رؤوس اللبنانيين وبناء سدود وتأهيل الطرقات وانارتها للحد من الحوادث التي زادت في الآونة الاخيرة بشكل مرعب.
تعليقات الزوار