حتى العام 1976 لم يكن لبنان يعرف كلمة "عجز" أو "مديونية" اذ كانت الخزينة اللبنانية تتمتع بفوائض نقدية وكان لبنان يعرف يومها بسويسرا الشرق والمركز المالي الأول في المنطقة. وقد أدى تدفق الفوائض المالية العربية الناتجة عن الفورات النفطية في الوطن العربي الى زيادة متانة الاقتصاد اللبناني والوضع المالي الأمر الذي انعكس ازدهاراً في كافة المجالات والقطاعات وجاءت الحرب الأهلية عام 1975 وتوسّع الأعمال الحربية وما نتج عنها من تداعيات لتقلص الايرادات وتحول دون استمرار سيطرة الدولة على العديد من المرافق والمرافئ ممّا أضاع عليها العديد من مواردها في الوقت الذي استمرّت فيه بدفع الرواتب والأجور وزيادة الانفاق فضلاً عن دعمها للعديد من السلع أبرزها القمح والطحين والمحروقات.
ومع بداية الثمانينات بدأ العجز يتزايد واضطرت الدولة الى الاستدانة من مصرف لبنان ومن المصارف التجارية وأخذ هذا الوضع يزداد صعوبة نتيجة تزايد النفقات على الواردات واستمرت الاوضاع المالية بالتراجع الى أن كان الانهيار الكبير لليرة اللبنانية في أواسط العام 1986 الامر الذي زاد من تأثر الخزينة بهذا الانهيار فلم تتجاوز نسبة تحصيل الواردات الـ 6 مليارات ليرة مقابل نفقات زادت عن 35 مليار ليرة كان معظمها يذهب نفقات رواتب وأجور وهدر في الانفاق، ومما زاد الطين بلة ما بدأت كهرباء لبنان تعانيه من عجز كان يزيد في التفاقم عاماً بعد عام الى أن بلغ مؤخراً الملياري دولار أميركي سنوياً وقد نتج هذا العجز في البداية عن كثرة الأعطال وما عانته الشبكة ومعامل الانتاج من ارتفاع في أسعار الفيول فضلاً عن الهدر الكبير في الانفاق داخل المؤسسة الذي زادته التدخلات السياسية سوءاً. وقد بلغ العجز المالي أو الدين العام في نهاية 1986 ما يقارب ال 250 مليون دولار.
واستمرّت جولات الحروب وفي كل منها تخلف ما تخلفه من دمار وخراب حيث أعقبت ذلك مرحلة اعادة الاعمار مع كلفتها المرتفعة فبدأ العجز يكبر ككرة الثلج وكان هذا التزايد في العجز موضع اهتمام المسؤولين ولكن بدون نتيجة، وقد عقدت عدة مؤتمرات دولية عرفت بباريس 1 وباريس 2 وباريس 3 ومؤتمر أصدقاء لبنان في الولايات المتحدة الأميركية وبذلت عدة محاولات لمعالجة المشكلة المالية والتخفيف من حدة العجز ولكن بدون نتيجة اذ بقي العجز يتزايد والفوائد المالية تتراكم.
ومع استمرار تدهور سعر صرف العملة اللبنانية حيث وصل في أوائل التسعينات الى 3 ألاف ليرة لبنانية مقابل الدولار وتراجع مؤشرات الاقتصاد اللبناني وبدء مرحلة اعادة الاعمار بتكاليفها المرتفعة بقي العجز يتزايد وان أخذ الوضع المالي يعتمد الى حد بعيد على سندات الخزينة واصدارات اليوروبندوقد وصل هذا العجز في آخر التسعينات الى حوالي 18 مليار دولار وزاد في صعوبة الأوضاع المالية والاقتصادية التجاذبات والانقسامات السياسية التي شهدتها البلاد في أواخر التسعينات لتزيد من الضغط على الاقتصاد اللبناني والوضع المالي الى أن كان الانفجار الكبير في 14 شباط 2005 باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وما تبع ذلك من تداعيات على كل القطاعات والمرافق من اقتصادية ومالية مترافقاً مع زيادة حدة الانقسامات وتعطيل الحياة السياسية، اضافة الى العديد من الأحداث والهزات الأمنية وحرب الـ 2006 وقد وصل هذا العجز خلال النصف الأول من هذا العام الى حوالي 68 مليار دولار ولولا التسليفات والقروض المصرفية التي ظلت تحرك عجلة النمو الاقتصادي لكان الوضع الاقتصادي والمالي أكثر سوءاً.
ان مشكلة العجز المالي هي من أهم المواضيع التي يجب أن تحظى باهتمام المسؤولين. وكاد أن يطل بصيص أمل بمعالجتها عند الاعلان عن اكتشاف النفط والغاز في لبنان وقرب البدء بالتنقيب عنه واستثماره، الا أن هذا الأمر ما زال بعيد المنال على ما يبدو. وها ان اسرائيل بدأت التنقيب عنه في الوقت الذي لا نزال نحن نختلف على خريطة البدء بهذا التنقيب.
ان معالجة مشاكل الاقتصاد اللبناني وفي طليعتها العجز المالي لا يمكن أن تتم الاّ بالوفاق السياسي أولاً، ثم بوضع أمني مستقر، وبترشيد الانفاق ووقف الهدر والفساد الذي زاد كثيراً، واعتماد سياسة مالية واقتصادية واضحة وهادفة ومسؤولة وتشجيع الاستثمارات وتحفيزها بمختلف الوسائل وفق استراتيجية تؤمن جعل القطاعات الاقتصادية المختلفة يسند بعضها البعض الاخر بما يؤمن النمو المتدافع ذاتياً ويضع الاقتصاد اللبناني برمته على طريق التنمية المتكاملة المستدامة وفي هذا المجال لا بد من معالجة أزمة النازحين السوريين وتأثيرها على الأمن الاقتصادي والاجتماعي كما لا بدّ من الاسراع في اقرار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص الذي يعول عليه كثيراً في سبيل الاستفادة من قدرات القطاع الخاص وامكانياته في تنفيذ مشاريع البنى التحتية التي أصبحت بحاجة أكيدة الى التحسين والتطوير.
بقلم: محمد لمع
نائب رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة في لبنان
تعليقات الزوار