أمضى لبنان أكثر من أحد عشر عاماً من دون موزانة عامة ترعى حدود الإنفاق، أيمنذ عام 2005، فساد الإنفاق العشوائي وفق القاعدة الإثني عشرية، ومن دون إنجاز قطع حساب، على خلفية الاشتباك السياسي حول الـ 11 ملياراً، والمناكفات بين التيارين الأزرق والبرتقالي التي عطّلت إقرار الموازنات. وطوال هذه الأعوام، تعرّضت المالية العامة في لبنان إلى عملية استنزاف كبيرة، ناتجة من إنفاق مُفرط، في ما أدّى إلى تنامي الدين العام والعجز المالي. لا شكّ في أنّ إقرار الموازنة العامة وإحالتها على المجلس النيابي لمناقشتها وإقرارها أمر في غاية الأهمية، بعد سنوات من الإنفاق المخالف للدستور وفق القاعدة الإثني عشرية، التي تصحّ لبضعة أشهر وليس طوال اثني عشر عاماً.
يعود تاريخ آخر موازنة أقرّها مجلس النواب إلى عام 2005، قبل أن تؤدّي الخلافات السياسية إلى تجميد الموازنات، التي أعدّتها الحكومات المتعاقبة من دون عرضها على المجلس النيابي، واتخاذ الصراع بين الأطراف المعنية أوجهاً عدة، وتمحور حول إهدار المال العام، وتحديداً مبلغ الـ11 مليار دولار، هو قيمة مشاريع الموازنة التي أنفقت بموجبها الحكومات اللبنانية خارج إطار موازنة عام 2005. وقد صدر عام 2009 كتاب "الإبراء المستحيل"، الذي تضمّن عرضاً لـ "التجاوزات القانونية والمالية". وفي المقابل، صدر كتاب "الافتراء في كتاب الإبراء"، من دون أن تحلّ الأرقام والتبريرات القانونية الواردة في الكتابين أيّ جديد على صعيد الموازنات الغائبة. أما أبرز عناصر الخلاف القانوني، فهو أنّ المادة 83 من الدستور اللبناني نصّت على أن تقدّم الحكومة إلى مجلس النواب موازنة شاملة، تتضمن نفقات الدولة ودخلها المتوقع خلال السنة المقبلة، ثم يتمّ التصويت على الموازنة بنداً بنداً. كذلك وضعت المادة 86 من الدستور أصولاً لإقرار الموازنة، ما يؤدي إلى مخالفة دستورية حين التفلت من تطبيقها. إنّ قانون المحاسبة العمومية قضى بأن يودع مجلس الوزراء السلطة التشريعية، ضمن المهلة المحدّدة في الدستور (في بداية عقد تشرين الأول من كل سنة) مشروع الموازنة في صيغته النهائية، كما قضى بأن يقدّم وزير المالية إلى السلطة التشريعية (مجلس النواب) تقريراً مفصلاً عن الحالة الاقتصادية والمالية في البلاد (فذلكة الموازنة)، وعن المبادئ التي اعتمدتها الحكومة في مشروع الموازنة. ولا تصبح الموازنة نافذة إلا بعد تصديقها من السلطة التشريعية.لكن الدستور قضى بأن تعرض حسابات الإدارة المالية النهائية على مجلس النواب ليوافق عليها قبل نشر الموازنة. إن السبب الحقيقي لعدم إقرار موازنات الدولة لعام 2006 ولغاية عام 2011 هو عدم صحّة حسابات الإدارة المالية النهائية لغاية عام 2007، وعدم إنجاز حسابات عامي 2008 و2009، وبالتالي عدم إحالة هذه الحسابات من قبل الحكومة إلى مجلس النواب، وفقاً للأصول، وضمن المهل الدستورية والقانونية. أدى ذلك إلى مبادرة مجلس الوزراء إلى تأليف لجنة وزارية، هدفها معالجة قطع حساب موازنة الدولة. فوافقت هذه اللجنة على مشروع قانون من مادة وحيدة للمصادقة على جدول بالنفقات المصروفة فعلياً في سنة 2006 ولغاية 2009، بالإضافة إلى اعتبار هذا الجدول بمثابة قطع لحسابات السنوات المذكورة... إلاّ أنّ هذا المشروع قد سقط، لأنّه يشكّل فضيحة دستورية وقانونية، بحسب رأي الخبراء. وخلافاً لأحكام المادة 195 من قانون المحاسبة العمومية، أعفى المشترع الحكومة من إعداد حساباتها النهائية لعام 1990 وما قبل، بسبب الأحداث. وبتاريخ 3/2/2006، صدر قانون موازنة الدولة لعام 2005، بموجب القانون رقم 715، الذي قضت المادة 23 منه "بصرف النظر نهائياً عن إعداد حساب مهمّة المحتسبين المركزيين، وحساب المهمّة العام، وقطع حساب الموازنة للسنتين 1991 و1992، على أن يمارس ديوان المحاسبة رقابته على الحسابات اعتباراً من حسابات السنة 1993". إن عدم إنجاز حسابات الدولة المالية النهائية، لا سيما قطع حساب موازنة الدولة وحساب المهمّة العام، يؤدّي إلى:
1- تعطيل الرقابة المالية
إن عدم إنجاز حسابات الدولة النهائية يؤدي إلى تعطيل الرقابة المالية على تنفيذ موازنة الدولة، إذ إن هدف الرقابة المالية هو التأكد من أن تنفيذ الموازنة يسير وفقاً للإجازة التي أعطاها مجلس النواب، والتأكّد من حسن التنفيذ وعدم تجاوز الاعتمادات المرصودة، والتثبت من صحة تحصيل الواردات المقرّرة، وتجنّب التبذير والهدر، وإنفاق الاعتمادات وفقاً للأصول وفي الغايات التي رصدت من أجلها. ويستوجب ذلك مراقبة الاشخاص والهيئات الذين يقومون بتنفيذ النفقات، وكذلك الذين يتولون تحقيق الواردات وتحصيلها، وبصورة عامة جميع الذين يتولون إدارة الأموال العمومية من وزراء وموظفين، وتحديد مسؤولياتهم عند الاقتضاء. إن الرقابة على تنفيذ الموازنة، يجب أن تمارسها في الأصل السلطة التشريعية (مجلس النواب)، التي أجازت للحكومة الجباية والإنفاق ضمن حدود رسمتها لها، حتى تتأكد من حسن التنفيذ. لكنّ ممارسة هذه المهمة تستوجب اختصاصاً وتفرّغاً، لا يتوافران على الأغلب في البرلمان، كما تستلزم حياداً وتجرّداً لا يمكن أن يتوافرا بصورة أكيدة، إلاّ في هيئات لا تتأثر بالنزاعات والتيارات السياسية. إن هذا كله حدا بالدول إلى إيجاد الهيئة المناسبة لممارسة الرقابة، إذ أناطها بعضهم بديوان المحاسبة كما في لبنان، وأناطها بعضهم الآخر بهيئات مماثلة. وهذه الهيئات على اختلاف تسمياتها تتفق في موضوع مهمتها، وهي القيام برقابة تمهيدية، تضع بنتيجتها تقارير تودع لدى السلطة التشريعية مع الحسابات النهائية لكي تجري الرقابة البرلمانية عليها.إن ديوان المحاسبة في لبنان يقوم بممارسة سلطته على نطاقين: إداري وقضائي، فالسلطة الإدارية يمارسها برقابته المسبقة على تنفيذ الموازنة، وبتقارير ينظّمها بنتائج الرقابة المُسبقة والمؤخرة التي قام بها، فيما السلطة القضائية يمارسها الديوان برقابته المؤخّرة على الحسابات، وعلى كلّ موظف يتولى إدارة الأموال العمومية. وينظّم الديوان في نهاية كلّ سنة تقريراً سنوياً، يضمّنه نتائج رقابته، ذاكراً فيه المخالفات الأساسية التي ارتكبها الوزراء والموظفون والمسؤولون ويرفعه إلى السلطات العليا.
2- تعطيل الرقابة السياسية
لا تقتصر نتائج عدم إنجاز الحسابات المالية على تعطيل الرقابة المالية التي يقوم بها ديوان المحاسبة، بل تمتدّ أيضاً إلى تعطيل الرقابة السياسية التي تتجلّى في رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية بصور متعددة، أهمّها الرقابة البرلمانية، أثناء تنفيذ الموازنة، من الوجهة النظرية. أما من الناحية العملية، فلم يكن للرقابة البرلمانية، بوساطة قطع حساب الموازنة أيّ فعالية جديّة. وقد اعتاد مجلس النواب اللبناني تصديق قطع الحساب من دون أيّ مناقشة، مثلما جرى حين التصديق على قانون قطع حساب موازنة 2003. إن عدم إقرار الموازنة، وانعدام الرؤية الاقتصادية العامة، يسمّى في علم القيادة "السير بالفوضى"، إذ يتمّ الإنفاق من دون تخطيط ومن دون ضوابط، حين لا توجد اعتمادات ولا يوجد سقف مجاز لنفقات الحكومة، برغم أن لا أحد يجيز الإنفاق إلا المجلس النيابي، بحسب الدستور اللبناني وقانون المحاسبة القانونية. والموازنة وفق ما يحدّده الخبراء هي "رؤية اقتصادية واجتماعية للحكومة في فترة زمنية معينة، محدّدة بسنة كاملة. وخلال هذه السنة، تقدم الحكومة بياناً بالإيرادات والنفقات التي ستؤدّيها خلال هذه الفترة". وعندما لا توجد موازنة، يتمّ الإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية مثلما هو حاصل في لبنان اليوم. ومع غياب الموازنة وحصول الإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية، لا يكون لدى الحكومة برنامج إصلاحي ماليّ أو اقتصاديّ أو اجتماعيّ، ويصير نشاطها أشبه بتسيير الأعمال. والحكومة في هذه الحالة تقوم بعمليتي الجباية والإنفاق فقط، من دون القدرة على القيام بالإصلاحات أو المشاريع الاستثمارية أو تنفيذ برامج تنموية. وسلبيات غياب الموازنة هي أن لبنان خلال السنوات العشر الماضية لم يكن لديه خطة ولا رؤية، ما أدى إلى خسارته على صعيد الإصلاحات الاجتماعية والإنماء والاستثمار وتحسين جباية الدولة وعلى صعيد ترشيد الإنفاق. والموازنات هي إدارة للتنمية. فلو كانت موجودة لاستطاعت الحكومات في لبنان خلال الفترة الماضية تغطية الدين العام. ولأننا لم نتعامل مع الموضوع على هذا المستوى، تحوّلت الموازنات إلى تأمين الرواتب والأجور للموظفين وتكلفة الكهرباء وخدمة الدين العام. ويبدو أنّه لغاية اليوم ليس لدى الحكومات اللبنانية أيّ إمكانية مالية أو قانونية للقيام بأيّ خطوات إنمائية أو اجتماعية. وبغياب الموازنة، تختفي الرقابة الفعلية على مالية الدولة من قبل الجهات الرقابية، سواء من قبل ديوان المحاسبة أو مجلس النواب. بمعنى أنّ النظام المالي مخترق، والجهات الرقابية باتت غير فعّالة، في وقت لم يعد بمقدور الحكومة القيام بالرقابة الفعلية على عمل الإدارات.ولا يمكن بالتالي ضبط عمليات الهدر والسرقة التي قد تحصل في الإدارات العامة طالما لا توجد موازنة وتغيب السلطات الرقابية. إن مقتل الموازنات موجود في قلبها، حيث الهدر والفساد والصناديق السوداء والظاهرة التي يغذيها العامل السياسي، الذي غيّب حتى اليوم عملية الإصلاح المطلوبة. وحتى تأتي الموازنة دقيقة وفعّالة، يجب وضعها من خلال فكر القطاع العام، على ما يشير إليه أهل الاختصاص. يجب أن تحمل رؤية استراتجية تتمّ مراجعتها كلّ 3 أشهر، ومعرفة ما تحقق منها، وما الذي لم يتحقق. إن الطريقة التي اتبعت سابقاً في وضع الموازنة تقوم على وضع بنود الإنفاق وحجم العجز، ثم يبدأ البحث عن مصادر الإيرادات، فإمّا تأتي عن طريق الاستدانة، أو عبر ضرائب جديدة. والأمران هما من أبرز معوّقات التنمية، لأنّ زيادة الدين تعني زيادة الأعباء، وزيادة الضرائب تعني خفض الاستهلاك العام. يشدّد البعض من خبراء الاقتصاد على وجوب تحرير الموازنة لأنّها تحتاج إلى استبدال السياسة الضيقة بالسياسات التنموية. وإذا لم يتوافر في الإدارة الرسمية من يعرف مثل هذه السياسات وجب تلزيمها للقطاع الخاص، وتحصينها من كلّ الأضرار، وأبرزها الفساد. إنّ غياب الموازنة يؤثر في رؤية المؤسسات المالية الدولية للبنان. فهي تؤثر سلباً في النظرة إلى لبنان وديونه السيادية ووضعه الاقتصادي. ومن تداعيات ذلك أنه يؤدي إلى ارتفاع المخاطر السيادية، أي إمكانية رفع الفوائد وابتعاد المستثمرين عن لبنان. لا شكّ في أنّ البدء بدرس الموازنة العامة لعام 2017 أمر في غاية الأهمية، بعد سنوات من الإنفاق المخالف للدستور وفق القاعدة الإثني عشرية. وهذه العملية تضع مشروع الموازنة على سكّة المؤسسات الدستورية. ومن أهمّ معايير استعادة ثقة اللبنانيين وكلّ المراقبين المحليين والدوليين بالبلد هو أن تقوم الحكومة بإنجاز مشروع قانون الموازنة وإرساله إلى مجلس النواب، وأن يقوم المجلس بإقراره. ولأننا في لبنان، يرى مراقبون أنّ إقرار الموازنة لن ينتهي إلاّ باتفاق سياسي شامل على مكامن الخلاف.
تعليقات الزوار