حان موسم الرحيل، حزم الإيمان في فؤاده والتواضع ومضى إلى حيث البدايات، هناك في عليائه.
غادرنا بعد رحلة مُضنية مع الفن زارعاً في حدائقها أروع الأعمال الغنائية. هكذا هم الكبار المترفّعون عن صغائر الدنيا.
مضى وديع الصافي وقد طوى الثانية والتسعين من عمره وما زالت الحياة لائقة به، بذاكرته الوجدانية التي تفيض حناناً.
رحل كبير المطربين وبرحيله طوى صفحة مجيدة في عالم الغناء العربي. لم يكن هذا الرجل فناناً، بل كان مُبدعاً في مقامات صوته العِرَبَ والنوتة، فكما يطال الجواب برنّة نحاسية، كذلك يحاكي القرار بالمستوى عينه، ممّا جعل المختصّين في عالم الموسيقى والغناء عاجزين عن تحديد اتجاهات هذا الصوت وعراقته وفيض كل الحلا فيه. أعطى كبيرنا الراحل الأغنية اللبنانية موقعاً جغرافياً على امتداد المعمورة، فكانت أغانيه تحمل في طيّاتها عطر الأصالة اللبنانية والعراقة وكانت تنساب إنسانياً مثل لوحات مؤرشفة عن حضارتنا الفينيقية العريقة.
غنّى الوطن بكل أطيافه وانتماءاته، فكانت أغانيه الوطنية عناوين عريقة في عمق المكتبة الغنائية، خالدة مُحصّنة، ومرجعاً للباحثين كما غنّى أيضاً الحب والجمال والقصيدة والشروقي، ولكنَّ موّال وديع الصافي صافٍ مثل رنين أجراس بيت شباب النحاسية. ترك فقيدنا الغالي إرثاً فنياً غنياً ساهم بتوطيد أسُس وركائز الفن اللبناني، سهرات غنائية حوارية مع السيدتين فيروز و صباح، افلاماً سينمائية، مسرحيات باتت جميعها ذاكرة مُشرّفة للفن اللبناني أيضاً.
أغنى الراحل الكبير المكتبة الدينية بأعمال فاح منها عطر الشفاعة والتقوى فكان من ضمن الذين قدّموا العديد من التراتيل والصلوات. وديع نسر الغناء الأصيل فرّد جناحيه مكلّلاً بالتواضع وغاب مثل الأتقياء فوق سحب العلالي تاركاً في العيون دموعاً حارقة وفي القلوب وحشة مظلمة، رحل بهدوء فأغمض عينيه اللتين تشعّان فرحاً عن أوجاع وطن فرّقته بنادق الساسة ووحّده صوته.
أحبّ لبنان ما بعد العبادة وأعطاه أروع الأغاني والألحان، حمله وجعاً منذ الأبد وحتى النهاية وبغيابه انكسر جناح الأغنية اللبنانية ونكّس الموال رايته ولكنّ التاريخ أبداً لن ينساه فهو غائب عنّا بالجسد راقداً في نيحا الشوفية وباقٍ معنا حتى الزمن سراجاً مُشعّاً للأجيال ونفحة ريح نقيّة في رئة الغناء الأصيل.
تعليقات الزوار