لتكون من صنّاعِه فكانت الأسطورة التي صنعت له صفحاته على مدار زمن من العطاء لا ينضب سبيله من التدفّق وهي الذاكرة التي لطالما كانت وما زالت وستبقى نبراس الوطن الجميل...
عجز الموت عن تغيير صورتها هي التي أعطت الفن لغة صافية. جاهدت فكانت انثى في معركة الأنوثة. على صعيد الصوت الرخيم المُمتدّ فوق مساحات عريضة فيه قرار القرار وعذوبة الجواب، كانت هي صاحبة هذا الصوت. غنّت لبنان فأرست حضارته فوق سطور التاريخ وغنّت المصري فأعطت للنيل لونه الأزرق. عملت في السينما فكانت عجينة ليّنة في تركيب "الكاركتيرات" ثمّ مضت إلى المسرح كنجمة استعراضية، فوق قبالة أعمدة مهرجانات بعلبك وكان الموال ثالثهما. هذه الفنانة قهرت الموت على الرغم من رحيلها، أخذت معه الحزن حيث كانت معتادة على خنق أحزانها ولمّا استفاقت على موعد الرحيل زادتنا وجعاً، لأنّ الكبار لا يتكرّرون، لا يتراجعون، بل يمضون بعناد إلى حيث يمضون.
وطني حزين، لأنّ فرحته غابت مع الفجر، مثل أيقونة مطهّرة بالدمع والنقاء، فما زرعته الصبوحة في الفن الحديث كان وما يزال الزمن الجميل وزقزقة الايام الباقية وما قدّمته للمكتبة الغنائية من أعمال خالدة سوف يبقى مناهج اكتساب للأجيال القادمة.
رحلت في صقيع كانون قبل ولادة المسيح لأنّها مؤمنة وها هو عيد الميلاد يهلّ بعد لحظات وأجراس الفرح صامتة في وطني. صباح ما أروعك، ما أجملك في تواضعك وطيبتك وقلبك الكبير وانت ما تزالين سيدة الأناقة، الذوق والفن الأصيل. سكبت صباح في مجال الفن اللبناني صيغة الجماليات، غنّت الكثير وكانت أولى الفنانات اللواتي غنّين الأغنية الخليجية. تألّقت ورحلت.
كثيرون وخصوصاً الذين لا يفهمون علم الموسيقى، لا يعلمون بأنّ هذا الصوت المعجزة هو من صنع لبنان الإستقلال، هو من أعطى للوطن هويّته لأنّ صاحبته حملت وطنها على أوتار حنجرتها إلى أقاصي الأرض.
ماذا يُقال فيها أو يُكتب عنها؟ ماذا يكون مجرى الكلام في حضرتها وهي التي تعالت عن الكلام؟ عندما أشرقت صباح في الفن، أزهرت الأرض جمالاً وحبوراً لأنّ صوتها العريض ذا الطبقات العليا جعلها ترمّم اسلوبية الغناء في وطننا العربي وتبسّط مفهومه لتكون من الناس، ولمّا أنشدت مع كوكبة من النجوم لحن عبد الوهاب لمصر "وطني الأكبر" تربّعت على القمة. هذه الفنانة صاغها القدر لتكون مميزة وامرأة فوق العادة، كتبها الزمن أسطورة لن تتكرّر وكم نحن سعداء في هذا الموطن لأننا عايشناها، تقرّبنا منها، شاهدناها عن كثب وكم هي تعيسة الأجيال القادمة لأنّ الصبوحة غائبة عنهم.
صباح وداعاً.... فالوداع في حضرتك لقاء وانت الباقية في دفاتر يومياتنا، وقصص هوانا، أغانيك حيّة فينا، مشلوحة على مفارق حياتنا مثل زهر الياسمين. "قايمة ضب تيابي ورايحة لعند حبابي" و"بكرا بتشرق شمس العيد" ولكن مجوز عبود سكت عن العزف والضيعة وشجرة التوت دبّ فيهما اليباس.
وداعك ألم في ظلّ فوضى السياسة وإهمال الدولة لكبارها ولكننا شعب لا يعرف سوى الصراخ والهتافات، تغيب عن مخيّلته بأنّ صباح باقية فوق احتمالات الزمن....
وداعاً يا روح لبنان.
تعليقات الزوار